البحر المحيط، ج ٣، ص : ٥٧١
ويجعل اللّه في فراقكم لهنّ خيرا كثيرا لكم ولهن، كقوله : وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «١» قاله الأصم : وهذا القول بعيد من سياق الآية، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها.
وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر، ويقال : ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر. وفي صحيح مسلم :«لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر».
وأنشدوا في هذا المعنى :
ومن لا يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً لمّا أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة، وأقام الإرادة مقام الفعل. فكأنه قال : وإن استبدلتم. أو حذف معطوف أي : واستبدلتم. وظاهر قوله : وآتيتم أن الواو للحال، أي : وقد آتيتم. وقيل : هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر. والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى : أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. واستدل بقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا على جواز المغالاة في الصدقات، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال :«ألا لا تغالوا في مهور نسائكم». وقال قوم : لا تدل على المغالاة، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه : قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا شبيه
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«من بنى مسجدا للّه ولو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة»
ومعلوم أن مسجدا لا يكون كمفحص قطاة، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر. وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم لمن أمهر مأتين وجاء يستعين في مهره وغضب صلّى اللّه عليه وسلّم :«كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة»
وقال محمد بن عمر الرازي : لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله : وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع
كقوله :«من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين»
انتهى. ولما كان قوله : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، خطابا لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجا مكان أزواج، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله : إحداهن
(١) سورة النساء : ٤/ ١٣٠.