البحر المحيط، ج ٣، ص : ٦١٣
ذهب إليه الطبري بعيد جدا لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله : ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال :
وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعا انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.
وانتصاب عدوانا وظلما على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي : معتدين وظالمين. وقرىء عدوانا بالكسر. وقرأ الجمهور : نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش : بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرىء أيضا : نصليه مشددا. وقرىء : يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على اللّه أي : فسوف يصليه هو أي : اللّه تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال : لكونه سببا للمصلي، وفيه بعد. ومدلول نارا مطلق، والمراد - واللّه أعلم - تقييدها بوصف الشدّة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري : لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وأبو المعالي، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري : إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه