البحر المحيط، ج ٣، ص : ٧٠٠
أخبر تعالى أنّ محمدا هو خاتم النبيين. وقال هو صلّى اللّه عليه وسلّم :«لا نبي بعدي»
. وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها، لو قلت : إن تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة، لم يجز.
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين. فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا. وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس. فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب. فقيل : هو الكثير الصدق، وقيل : هو الكثير الصدقة. وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ «١». الثاني : أفاضل أصحاب الرسول. الثالث : السابق إلى تصديق الرسول. فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل اللّه، المخصوص بفضل الميتة. وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم. وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال أبو عبد اللّه الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل، وهو الذي يشهد لدين اللّه تارة بالحجة بالبيان، وتارة بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم اللّه في قوله : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «٢». والصالح : هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وعمله. وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى، إلى أدنى منه. وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة اللّه وطاعة رسوله، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد اللّه إلى اللّه، وأرفعهم درجات عنده.
وقال الراغب : قسم اللّه المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أن يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب. ولذلك قال تعالى :
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى «٣». الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة،

_
(١) سورة الحديد : ٥٧/ ١٩.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١٨.
(٣) سورة النجم : ٥٣/ ١٢.


الصفحة التالية
Icon