البحر المحيط، ج ٤، ص : ١١٥
لم قدم الشكر على الإيمان؟ (قلت) : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان، وكان أصل التكليف ومداره. وقال ابن عطية : الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي : إن آمنتم وشكرتم.
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً شاكرا أي : مثيبا موفيا أجوركم. وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل، وينميه عليما بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله : عليما، تحذير وندب إلى الإخلاص للّه تعالى. وقيل :
الشكر من اللّه إدامة النعم على الشاكر.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قال مجاهد : تضيف رجل قوما فأساؤوا قراه، فاشتكاهم، فعوتب، فنزلت. وقال مقاتل : نال رجل من أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه والرسول عليه السّلام، حاضر، فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه، فقام الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر : يا رسول اللّه شتمني فلم تقل شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت، فقال :«إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان» فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين، سوّغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه السّلام :«اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس».
وقرأ الجمهور : إلا من ظلم مبنيا للمفعول. وقال ابن عباس وغيره : إلا من ظلم، فإنّ له أن يدعو على من ظلمه، وكان ذلك رخصة من اللّه له، وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن :
لا يدعو عليه، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. وقال ابن جريج : يجازيه بمثل فعله، ولا يزيد عليه. وقيل : هو أن يبدأ بالشتم فيردّ على من شتمه، وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة. وقال المنير : معناه إلا من أكره على أن يجهر بالسوء كفرا ونحوه فذلك مباح، والآية في الإكراه، وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي : الأجهر من ظلم. وقيل : الاستثناء منقطع والتقدير : لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله : السدي، والحسن، وغيرهما. وبالسوء


الصفحة التالية
Icon