البحر المحيط، ج ٤، ص : ١٤٠
تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله، وأنه يترتب عليه العقاب. وأما ما نصبه اللّه تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان باللّه على ما يجب، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان باللّه، فلا يرد سؤال الزمخشري. وانتصب رسلا على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال : والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوّز غيره أن يكون مفعولا بأرسلنا مقدرة، وأن يكون حالا موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوّز أن يتعلق بمقدر أي : أرسلناهم بذلك أي : بالبشارة والنذارة لئلا يكون.
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، صادرة أفعاله عن حكمة، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل. وقيل : عزيزا في عقاب الكفار، حكيما في الأعذار بعد تقدم الإنذار.
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة، لأنّ لكن لا يبتدأ بها، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو : أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا :
ما نشهد لك بهذا، لكن اللّه يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات. وقرأ السلمي والجراح الحكمي : لكنّ اللّه بالتشديد، ونصب الجلالة. وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنيا للمفعول.
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قرأ السلمي : نزّله مشددا. قال الزجاج : أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي : أنزله من علمه. وقال ابن جريج : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. وقيل : أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه، وعلمك بما فيه، وحسن دعائك إليه، وحثك عليه. وقيل : بما يحتاج إليه العباد. وقيل : بعلمه أنّك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان. قال ابن عطية : هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم اللّه تعالى، خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم. والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية : أنه أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر، ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر. وقال الزمخشري : أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله