البحر المحيط، ج ٤، ص : ٢٢٩
كلامه. ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات، والذي قدرناه أولا كاف وهو : أنّ المعنى لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقيا، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها اللّه تعالى، وقصد خلافها ونازع، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها اللّه. قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاه الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة. وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة. وقول من زعم أن قوله : إنما يتقبل اللّه من المتقين، ليس من كلام المقتول، بل هو من كلام اللّه تعالى للرسول اعتراضا بين كلام القاتل والمقتول، والضمير عائد في قال على اللّه ليس بظاهر.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قال ابن عباس :
المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي. وقال عكرمة : المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل. وقال مجاهد والحسن : لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزا. وقال عبد اللّه بن عمرو وابن عباس والجمهور : كان هابيل أشد قوّة من قابيل، ولكنه تحرج من القتل، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر وإنما هو عاص، إذ لو كان كافرا لما تحرّج هابيل من قتله، وإنما استسلم له كما استسلم عثمان بن عفان. وقيل : إنما ترك الدفع عن نفسه لأنه ظهرت له مخيلة انقضاء عمره فبنى عليها، أو بإخبار أبيه، وكما جرى لعثمان إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه، ورآه في اليوم الذي قتل في النوم وهو يقول :«إنك تفطر الليلة عندنا» فترك الدفع عن نفسه حتى قتل، وقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«الق على وجهك وكن عبد اللّه المقتول ولا تكن عبد اللّه القاتل».
وقيل : إنّ هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله، ولكن لم يتحقق ذلك، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل ليزدجر عنه وتقبيحا لهذا الفعل، ولهذا يروى أنّ قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله. وقال ابن جرير : ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزل القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه. قال الزمخشري :(فإن قلت) : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله : لئن بسطت ما أنا بباسط؟ (قلت) : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى. وأورد أبو عبد اللّه الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري، وهو كلام فيه انتقاد. وذلك أن قوله :
ما أنا بباسط، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم