البحر المحيط، ج ٤، ص : ٢٩٣
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة. قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي. وقال السدّي : يعني به فتح مكة. قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. وقيل : فتح بلاد المشركين. وقيل : فتح قرى اليهود، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما. وقيل : الفتح الفرج، قاله ابن قتيبة.
وقيل في قوله تعالى : أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «١» هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح اللّه في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله : ابن السائب ومقاتل. وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية. وقيل : الخصب والرّخاء قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر. وقال ابن عطية : ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم، فوعد اللّه تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع، هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى.
فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى اللّه بالفتح أو أمر من عنده.
وقيل : موالاتهم. وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير. قال بن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى. وتقدم لنا نحو من هذا الكلام، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا معطوف على قوله : أَنْ يَأْتِيَ «٢» وهو الظاهر، ومجور ذلك هو الفاء، لأن فيها معنى التسبب، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح، لأنه كان يكون معطوفا على أن يأتي خبر لعسى، وهو خبر عن اللّه تعالى، والمعطوف على الخبر خبر، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط، ولا رابط هنا، فلا يجوز العطف. لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو، أو خبر

(١) سورة المائدة : ٥/ ٥٢.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٥٢.


الصفحة التالية
Icon