البحر المحيط، ج ٤، ص : ٣١٧
اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله : لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «١» ولشمول قوله : يا أَهْلَ الْكِتابِ «٢» للفريقين وهذا قول : الحسن، ومجاهد. وقيل : هو عائد على اليهود، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية. والذي يظهر أن المعنى لاه زالون متباغضين متعادين، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك، ولا يقدرون على ضررك، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك. وفي ذلك إخبار بالمغيب، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت. وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله : فكلهم أبدا مختلف وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم، ولا تعاضد انتهى. والعداوة أخص من البغضاء، لأن كل عدوّ مبغض، وقد يبغض من ليس بعدوّ. وقال ابن عطية : وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه.
كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ قال قوم : هو على حقيقته وليس استعارة، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، فيتبادرون والجيش يسري ليلا فيوقد من مرّ بهم ليلا النار فيكون إنذارا، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس، يكون قريبا من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نارا، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد نارا، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار، فيعدّ المسلمون للقائهم. وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل نارا مخافة البيات، فهذا أصل نار الحرب. وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى اللّه الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي.
وقال الجمهور : هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف اللّه عنهم ذلك، وتفرّق آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرّق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم. فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا

(١) سورة المائدة : ٥/ ٥١.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٦٨.


الصفحة التالية
Icon