البحر المحيط، ج ٤، ص : ٤٢٠
بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن. وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلا، قالوا : لأن العقاب حق للّه على الذنب وفي إسقاطه منفعة، وليس في إسقاطه على اللّه مضرة، فوجب أن يكون حسنا ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السّلام، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة.
وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى اللّه تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله : فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. وقيل لما قال لعيسى : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الآية.
علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافرا بل مذنبا حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ. وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه، فقال :
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول اللّه له أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كان وقت الرفع، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه. وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافرا وفي وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عائد على من تاب منهم قبل الموت. وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قول قد صدر، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه، وإذا كان كذلك فقول عيسى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة، وظاهر قوله فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما


الصفحة التالية
Icon