البحر المحيط، ج ٤، ص : ٦٨
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً تقدّم مثل تفسير هذه الآية، ونزلت قيل : في طعمة. وقيل : في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين. وقيل : في شيخ قال : لم أشرك باللّه منذ عرفته، إلا أنه كان يأتي ذنوبا، وأنه ندم واستغفر، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثما عظيما، وآخر هذه فقد ضل ضلالا بعيدا ختمت كل آية بما يناسبها. فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك قد أشركوا باللّه مع أن عندهم ما يدل على توحيد اللّه تعالى والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراء واختلاقا مبالغا في العظم والجرأة على اللّه.
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من اللّه، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا باللّه، فضلوا بذلك ضلالا يستبعد وقوعه، أو يبعد عن الصواب. ولذلك جاء بعده : إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً «١» وجاء بعد تلك :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ «٢» وقوله : انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «٣» ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود، وإن كان اللفظ عاما. ولما كان الشرك من أعظم الكبائر، كان الضلال الناشئ عنه بعيدا عن الصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان، بخلاف المشرك. ولذلك قال تعالى : يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ «٤» وناسب هنا ذكر الضلال لتققدم الهدى قبله.
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً المعنى : ما يعبدون من دون اللّه ويتخذونه إلها إلا مسميات تسمية الإناث. وكنى بالدعاء عن العبادة، لأنّ من عبد شيئا دعاه عند حوائجه ومصالحه. وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلي، ويسمونها أنثى وإناث، جمع أنثى كرباب جمع ربى. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة : المراد الخشب والحجارة، فهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء. فيجيء قوله : إلا إناثا، عبارة عن الجمادات. وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء

_
(١) سورة النساء : ٤/ ١١٧.
(٢) سورة النساء : ٤/ ٤٩.
(٣) سورة النساء : ٤/ ٥٠.
(٤) سورة الحج : ٢٢/ ١٢.


الصفحة التالية
Icon