البحر المحيط، ج ٥، ص : ١١
والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعا قليلا. وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ : إن ما موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى. وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلا على أنه نعت لظرف محذوف أي زمانا قليلا نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن ما نافية. وقرأ حفص والاخوان تَذَكَّرُونَ بتاء واحدة وتخفيف الذال، وقرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء وتخفيف الذال، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين، وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال.
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ كَمْ هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكنا أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله فَجاءَها أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله فَجاءَها. وقرأ ابن أبي عبلة وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها فَجاءَها بَأْسُنا وأما أن يختلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.
وقال الفرّاء : إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيّهما قدّم في الرتبة، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد.
وقيل : الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير، كقوله : توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياتا على الحال وهو مصدر أي فَجاءَها بَأْسُنا بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلا كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله فَجاءَها وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع