البحر المحيط، ج ٥، ص : ١١٤
وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا أَنْ نَعُودَ في ملّتكم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة اللّه وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلا في حكم الجمع، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد اللّه به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد اللّه بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة اللّه فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من اللّه تعالى، وقال الزمخشري :(فإن قلت) : وما معنى قوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ واللّه تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر، (قلت) : معناه إلا أن يشاء اللّه خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثا والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «١» أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حسما لطمعهم في العود لأن مشيئة اللّه تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة، وقيل : هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب، قال ابن عطية : وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا إن يشاء وبين إلا إن شاء لأنّ إنّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أن المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في فِيها يعود على القرية لا على الملة.
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في في قصة إبراهيم عليه السلام.