البحر المحيط، ج ٥، ص : ٣٢
آية أي علامة وأمارة من اللّه أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون اللّه عليها.
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما. أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم، وقرأ يحيى وإبراهيم :
لا يَفْتِنَنَّكُمُ بضمّ الياء من أفتن، وقرأ زيد بن علي : لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة، وقال مجاهد هو لباس التقوى وسَوْآتِهِما هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال من الضمير في أَخْرَجَ أو من أَبَوَيْكُمْ لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعا تعين الأول لأنه إذ ذاك لو جوز الثاني لكان وصفا جرى على غير من هو له فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسببا فيه.
إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي إنّ الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده ونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم، كما أنّ الملائكة أيضا معلوم وجودهم من هذه الشريعة ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدّا لا نراها نحن ألا ترى أنّ الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صحّ تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمرّ الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه :«لو لا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد»
وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة، وكحديث سواد بن قارب مع رئية من الجنّ إلا أنّ رؤيتهم في الصور نادرة كما أنّ الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن ردّه أعني تصورهم في بعض الأحيان في الصّور الكثيفة، وقال الزمخشري : وفيه دليل بيّن على أنّ الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم وأنّ زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى، ولا دليل في الآية على ما ذكر لأنه تعالى أثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها


الصفحة التالية
Icon