البحر المحيط، ج ٥، ص : ٣٣١
إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال، إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر اللّه المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ «١» وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر اللّه بعضها عن بعض أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلا لا حقيقة ولا تخمينا على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيرا بأخيه وإلى قول الشاعر :
أروح وأغتدي سفها أكثر من أقلّ به
فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر، لا من باب تقليل العدد لِيَقْضِيَ أي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ واختلاف القراء في تُرْجَعُ في سورة البقرة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث :«لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا اللّه العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا».
وأمرهم بذكره تعالى كثيرا في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر اللّه إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق باللّه ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «٢». وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكر اللّه في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم
(٢) سورة الرعد : ١٣/ ٢٨.