البحر المحيط، ج ٥، ص : ٣٦٦
أوثقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهدا عاما على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحا آمنا. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.
وروي أنهم نكثوا إلّا بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل : هذه الآية في أهل مكة، وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، فدخلت خزاعة في عهد الرسول، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش، وكان لبني الديل من بني بكر دم عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم أعانوهم بأنفسهم، فهزمت خزاعة إلى الحرم، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم، فقدموا على الرسول صلى اللّه عليه وسلم مستغيثين، وأنشده عمرو فقال :
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أبا وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك اللّه نصرا عبدا
وادع عباد اللّه يأتوا مددا فيهم رسول اللّه قد تجردا
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا الحطيم هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«لا نصرت إن لم أنصركم» فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف، فجعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمره اللّه تعالى بإلقاء عهدهم إليهم، وأذن في الحرب.