البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٢٦
وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم استبقاء منه عليهم، وأخذا بالأسهل من الأمور، وتوكلا على اللّه. قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإن لم يأذن قعدتا، فنزلت الآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد اللّه إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما
قال :«لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة»
لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل. وقد قال اللّه تعالى :
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «١» لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرما وتفضلا منه صلى اللّه عليه وسلم، فأبان اللّه تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة، فعفا اللّه عنك عنده افتتاح كلام أعلمه اللّه به، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن، وليس هو عفوا عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما
قال صلى اللّه عليه وسلم :«عفا اللّه لكم عن صدقة الخيل والرقيق»
وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح اللّه الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر، ومعناه الدعاء انتهى.
ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عينا للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله : وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «٢» وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله :
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «٣». وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء : حتى يتبين
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٤٧.
(٣) سورة التوبة : ٩/ ٤٧.