البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٧٠
قريب من القول الذي قبله. وقال الأصم : أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر، ووبال فعلهم عليهم كما هو، فكأنه سخر منهم ولهذا قال : ولهم عذاب أليم، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى. وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر، لما يعقبهما من الوعيد.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ :
سأل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال صلى اللّه عليه وسلم :«قد رخص لي فأزيد على السبعين» فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
وقيل : لما نزل سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم، سألوا الرسول أن يستغفر لهم فنزلت.
وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم، أو على جميع المنافقين قولان.
والخطاب بالأمر للرسول، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير، وهو الذي
روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد قال له عمر : كيف تستغفروا لعدو اللّه وقد نهاك اللّه عن الاستغفار لهم؟
فقال صلى اللّه عليه وسلم :«ما نهاني ولكنه خيرني» فكأنه قال له عليه السلام : إن شئت فاستغفر، وإن شئت فلا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة.
وقيل : لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر اللّه، فيكون مثل قوله : قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ «١» وبمنزلة قول الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
ومر الكلام في هذا في قوله : قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «٢» وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال : وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر اللّه لهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى. يعني في تفسير قوله تعالى : قُلْ أَنْفِقُوا «٣» وكان قال هناك. (فإن قلت) : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل؟ (قلت) : هو أمر في معنى الخبر كقوله : قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا «٤» ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله : أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله :
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٥٣.
(٣) سورة التوبة : ٩/ ٥٣.
(٤) سورة مريم : ١٩/ ٧٥. [.....]