البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٧٦
وقد صرح بذلك في قوله تعالى : قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ولَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ «١» قال نحوه ابن عطية وغيره، إلى طائفة منهم لأنّ منهم من مات، ومنهم من تاب وندم، ومنهم من تخلف لعذر صحيح. فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل. وإذا كان الضمير في منهم عائدا على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجل أنّ منهم من مات. قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إن لم يعينهم. وقوله : وماتوا وهم فاسقون، نص في موافاتهم. ومما يؤيد هذا أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها. وروي عن حذيفة أنه قال يوما : بقي من المنافقين كذا وكذا. وقال له عمرو بن الخطاب : أنشدك اللّه أنا منهم؟ فقال : لا واللّه، لا أمنت منها أحدا بعدك. وأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب.
قال الزمخشري : فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم اللّه تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المخلفين انتهى. وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة، إلى الأشق وهو قتال العدو، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر اللّه في قوله : انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٢» وقالوا هم : لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشئ عن السبب وهو النفاق.
وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل : أو خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق.
وقيل : التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه. وقيل : أول مرة قبل الاستئذان. وقال أبو البقاء : أول مرة ظرف، ونعني ظرف زمان، وهو بعيد.

(١) سورة الأعراف : ٧/ ١٨٨.
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٤١.


الصفحة التالية
Icon