البحر المحيط، ج ٥، ص : ٥٢٨
المكان. وقيل : هو عام في القرب في المكان، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة، وقد أمرنا بقتال كلهم، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن النفقات فيه، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل، وحصول غير الإسلام أيسر. وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد.
وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى : جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «١» وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم. وقال تعالى : أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «٢» وفي الحديث :«ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة»
وقال تعالى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «٣» وقال : فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا «٤» والغلظة : تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة، والغلظة حقيقة في الأجسام، واستعيرت هنا للشدة في الحرب. وقرأ الجمهور : غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد، والأعمش وأبان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان أيضا بضمها وهي لغة تميم، وعن أبي عمر وثلاث اللغات ثم قال : واعلموا أنّ اللّه مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى اللّه تعالى، ومن اتقى اللّه كان اللّه معه بالنصر والتأييد، ولا يقصد بقتاله الغنيمة، ولا الفخر، ولا إظهار البسالة.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ :
قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرض بهم في خطبته، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون

(١) سورة التوبة : ٩/ ٧٣.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٥٤.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ١٣٩.
(٤) سورة آل عمران : ٣/ ١٤٦.


الصفحة التالية
Icon