البحر المحيط، ج ٥، ص : ٥٣٤
تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيدا ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين. وقال قوم : بالتوزيع، رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. وقيل : رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. وقيل : رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم. وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع اللّه لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى اللّه عليه وسلم، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «١».
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ : أي فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ اللّه عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل : حسبي اللّه أي : كافيّ من كل شيء، عليه توكلت أي :
فوضت أمري إليه لا إلى غيره، وقد كفاه اللّه شرهم ونصره عليهم، إذ لا إله غيره. وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات. وقال ابن عباس : العرش لا يقدر أحد قدره انتهى. وذكر في معرض شرح قدرة اللّه وعظمته، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم. وقرأ ابن محيصن : العظيم برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم : وهذه القراءة أعجب إليّ، لأنّ جعل العظيم صفة للّه تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وعظم العرش بكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض، وبكمال العلم والقدرة، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام، أو تصل إليه الأفهام. وعن ابن عباس : آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها. وعن أبيّ أقرب القرآن عهدا باللّه لقد جاءكم الآيتان، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفها، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئا أولا، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده. وقال عمر بن الخطاب : ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء. وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال :«من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه اللّه تعالى ما أهمه».

(١) سورة البقرة : ٢/ ١٤٣.


الصفحة التالية
Icon