البحر المحيط، ج ٥، ص : ٨٣
ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانيا والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم.
ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله : مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة وأُبَلِّغُكُمْ استئناف على سبيل البيان بكونه رسولا أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظا فيه كونه خبرا لضمير متكلم كما تقول أنا رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «١» بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّا مراعاة للفظ قَوْمِ لأنه غائب، وقرأ أبو عمرو أُبَلِّغُكُمْ هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع رِسالاتِ باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصودا به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أنفع من نصيحة اللّه تعالى ورسله، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك، وقال النابغة :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا وفي قوله ما لا تَعْلَمُونَ إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عذّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن يريد ما لا تَعْلَمُونَ من صفات اللّه وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلها معه أو يريد ما لا تَعْلَمُونَ مما أوحي إلي، قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوحا عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما

(١) سورة النمل : ٢٧/ ٤٧.


الصفحة التالية
Icon