البحر المحيط، ج ٥، ص : ٨٦
أخصب بلاد فسخط اللّه عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأت فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم يا قَوْمِ وكذا قالَ الْمَلَأُ وفي قوله أَفَلا تَتَّقُونَ استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله أَفَلا تَتَّقُونَ والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لم يتقوا اللّه وعبدوا غيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله أَفَلا تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أتى بوصف الْمَلَأُ بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «١» وقولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «٢» ويحتمل أن يكون وصفا جاء للذم لم يقصد به الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح وفِي سَفاهَةٍ أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد من كلام هود تقوية لقوله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كان جوابهم أغلظ وهو إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وكان كلام هود ألطف لقوله أَفَلا تَتَّقُونَ فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ ثم أتبعوا ذلك بقولهم وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا اللّه أو علّقوا الظن بقوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب. وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج، وقال الكرماني : خوّف نوح الكفار بالطوفان العام واشتغل بعمل السفينة فقالوا إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه إلى السفاهة فقابلوه بمثل ذلك.

(١) سورة هود : ١١/ ٢٧.
(٢) سورة الشعراء : ٢٦/ ١١١.


الصفحة التالية