البحر المحيط، ج ٦، ص : ١٠٤
يغرق، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية. وقيل : لمن يأتي بعدك من القرون، وقيل : لمن بقي من قبط مصر وغيرهم. وقرىء : لمن خلفك بفتح اللام أي : من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم. وقرأت فرقة : لمن خلقك من الخلق وهو اللّه تعالى أي : ليجعلك اللّه آية له في عباده. وقيل : المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة : إنّ مثله لا يغرق ولا يموت، آية من آيات اللّه التي لا يقدر عليها غيره، وإنّ كثيرا من الناس ظاهره الناس كافة، قاله الحسن. وقال مقاتل من أهل مكة عن آياتنا أي : العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفات العلى، لغافلون لا يتدبرون، وهذا خبر في ضمنه توعد.
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها. والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق، وسياق الآيات يشهد لهم. وقيل : هم الذين كانوا بحضرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله : لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «١» وقيل : يجوز أن يكون مصدرا. ومعنى صدق أي : فضل وكرامة ومنة فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «٢». وقيل : مكان صدق الوعد، وكان وعدهم فصدقهم وعده. وقيل : صدق تصدّق به عليهم، لأن الصدقة والبر من الصدق. وقيل : صدق فيه ظن قاصده وساكنه. وقيل :
منزلا صالحا مرضيا، وعن ابن عباس : هو الأردن وفلسطين. وقال الضحاك وابن زيد، وقتادة : الشام وبيت المقدس. وقال مقاتل : بيت المقدس. وعن الضحاك أيضا : مصر، وعنه أيضا : مصر والشام. قال ابن عطية : والأصح أنه الشام وبيت المقدس بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر، على أنه في القرآن كذلك. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «٣» يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك. وقد يحتمل أن يكون
(٢) سورة القمر : ٥٤/ ٥٥.
(٣) سورة الشعراء : ٢٦/ ٥٩.