البحر المحيط، ج ٦، ص : ٢٠٣
بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال : سوف تعلمون، يوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، كما هو عادة البلغاء من العرب. وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. قال الزمخشري :(فإن قلت) : قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول من يأتيه عذاب يخزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. (قلت) : القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذبا قال :
ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم انتهى. وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب، والذي قاله ليس بقياس، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله : سوف تعلمون، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم، وأعمل على مكانتي، ولا سوف تعلمون. واعلم أن التهديد مختص بهم. واستسلف الزمخشري قوله : قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، فبنى على ذلك سؤالا فاسدا، لأن المترتب على ما ليس مذكورا لا يصح البتة، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد، ونظيره في سورة تنزيل : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ «١» فهذا جاء بالنسبة للمخاطبين في قوله : قل يا قوم اعملوا على مكانتكم كما جاء هنا، وارتقبوا : انتظروا العاقبة، وما أقول لكم. والرقيب بمعنى الراقب فعيل للمبالغة، أو بمعنى المراقب كالعشير والجليس، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء؟ (قلت) : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله : إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ «٢» ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «٣» فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول :
وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تعطف قصة على قصة انتهى. وتقدم تفسير مثل ولما جاء أمرنا إلى قوله كان لم يغنوا فيها. وقرأ السلمي وأبو
(٢) سورة هود : ١١/ ٨١.
(٣) سورة هود : ١١/ ٦٥.