البحر المحيط، ج ٦، ص : ٢٢٤
ذكرى معناها توبة، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات اللّه بعد ما تقدم من الأوامر والنواهي، ومنبها على محل الصبر، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به، وأتى بعام وهو قوله : أجر المحسنين، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كريما، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه. وقال ابن عباس : المحسنون هم المصلون، كأنه نظر إلى سياق الكلام. وقال مقاتل : هم المخلصون، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم.
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ : لو لا هنا للتحضيض، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «١» والقرون : قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين، وسمي الفضل والجود بقية، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم. ومنه قولهم :
في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. وإنما قيل : بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول. وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط اللّه وعقابه.
وقرأت فرقة : بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي، نحو : شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر، وشيبة : بقية بضم الباء وسكون القاف، وزن فعلة. وقرىء : بقية على وزن فعلة للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره، والمعنى : فلو لا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام اللّه، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر. إلا قليلا استثناء منقطع أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره