البحر المحيط، ج ٦، ص : ٢٧٣
ومن الصاغرين : من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة : أطع وافعل ما أمرتك به، فقال :
رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى اللّه تعالى. والتقدير :
دخول السجن. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب : السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي : حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرّين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية اللّه وسوء العاقبة، لم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات اللّه، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع اللّه تعالى في كل وقت داعيا له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة باللّه، واستسلم للّه كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو.
فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي : أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله : أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية. وقرىء أصب إليهن من صببت صبابة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوى.
وقراءة الجمهور : أصب من صبا إلى اللهو يصبو صبا وصبوّا، ويقال : صبا يصبا صبا، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين يعملون بما، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر :
إحدى بليلى وما هام الفؤاد بها إلا السفاه والاذكرة حلما
وذكر استجابة اللّه له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله : وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال : رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي : حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه