البحر المحيط، ج ٦، ص : ٢٧٨
غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ : لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة.
واحتمل قوله : يا صاحبي السجن، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى :
يا صاحبيّ في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل : يا ساكني السجن، كقوله أَصْحابُ النَّارِ «١» وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ «٢» ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله : أأرباب، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام. وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق. وقابل تفرق أربابهم بالواحد، وجاء بصفة القهار تنبيها على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة، وإعلاما بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد. والمعنى :
أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو اللّه؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون. والخطاب بقوله :
ما تعبدون، لهما ولقومهما من أهل. ومعنى إلا أسماء : أي ألفاظا أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف. إن الحكم إلا للّه أي : ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا للّه ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه. ومعنى القيم : الثابت الذي دلت عليه البراهين. لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
(٢) سورة الحشر : ٥٩/ ٢٠.