البحر المحيط، ج ٦، ص : ٢٩٠
الجنس بقوله : إن النفس، فكأنه قال : إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة. ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير : لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير : لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة اللّه العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي. وجوزوا أن يكون استثناء منقطعا، وما مصدرية. وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ :
روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان؟ فقال : لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال :
أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك. وكان يوسف قصد أولا بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولا بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال : ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانيا ومقصوده : استخلاصه لنفسه.
ومعنى أستخلصه : أجعله خالصا لنفسي وخاصا بي، وسمى اللّه فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا
كتب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى هر قل عظيم الروم ولم