البحر المحيط، ج ٦، ص : ٣١٨
الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل : كانت تحل لغير نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم.
وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع وتصدق علينا، أراد أنها كانت حلالا لهم. وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا أن يتصدق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه. وقوله : إنّ اللّه يجزي المتصدقين شاهد لذلك، لذكر اللّه وجزائه انتهى. وقيل : كانت الصدقة محرمة، ولكن قالوها تجوزا استعطافا منهم له في المبايعة كما تقول لمن ساومته في سلعة : هبني من ثمنها كذا، فلم يقصد أن يهبك، وإنما حسنت معه الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك. وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم : وتصدق علينا أمر أخيهم بنيامين أي : أوف لنا الكيل في المبايعة، وتصدق علينا برد أخينا على أبيه. وقال النقاش في قوله : إن اللّه يجزي المتصدقين، هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا على غير دينهم. ولو قالوا : إن اللّه يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا، فقالوا له لفظا يوهم أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل. وروي أنهم لما قالوا له : مسنا وأهلنا الضر واستعطفوه، رق لهم ورحمهم.
قال ابن إسحاق : وارفض دمعه باكيا، فشرع في كشف أمره إليهم. فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي : من التفريق بينهما في الصغر، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف؟ وكانوا يذلونه ويشتمونه. قال ابن عطية : ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل السيئات وقلة الحنكة. وقال الزمخشري : أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال : هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه؟ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم في الدين، وإيثارا لحق اللّه على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها، وللّه حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى! وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين. وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور : هل علمتم استفهام معناه التقريع والتوبيخ، ومراده تعظيم الواقعة أي : ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف. كما يقال : هل تدري من عصيت؟
وقيل : هل بمعنى قد، لأنهم كانوا عالمين، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم، وقولهم : بأن