البحر المحيط، ج ٦، ص : ٤٦٨
قبل أحد، بل هو اللّه تعالى الذي بعث به جبريل عليه السلام إلى رسوله، وأكد ذلك بقوله :
إنا نحن، بدخول إنّ وبلفظ نحن. ونحن مبتدأ، أو تأكيد لاسم إنّ ثم قال : وإنا له لحافظون أي : حافظون له من الشياطين. وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى : إن الربانيين والأحبار بما استحفظوها «١» ولذلك وقع فيها الاختلاف.
وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر. وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة. وقيل : يحفظه في قلوب من أراد بهم خيرا حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان : كذبت، وصوابه كذا، ولم يتفق هذا الشيء من الكتب سواه. وعلى هذا فالظاهر أنّ الضمير في له عائد على الذكر، لأنه المصرح به في الآية، وهو قول الأكثر : مجاهد، وقتادة، وغيرهما. وقالت فرقة : الضمير في له عائد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي : يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى :
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٢» وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يظهر اللّه به الدين.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ : لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام. ومفعول أرسلنا محذوف أي : رسلا من قبلك. وقال الفراء : في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله : حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي : في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري : وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مرادا به الحال، وتدخل عليه مرادا به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب :
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٦٧.