البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٠٦
أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره، ولا نسلم ما ذكره من أنّ الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان. ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته، فذكر أولا أكثرها منافع، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام. والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها، ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالا من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة. وجوز أيضا أن يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز : قائما في الدار زيد، فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور. وأجاز أيضا أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بأل، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى. ولا تسمى جملة، لأنّ التقدير :
خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائنا فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة. وجوزوا أن يكون لكم متعلقا بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام.
ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله : ولكم فيها جمال، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية. وقال ابن عباس : الدفء نسل كل شيء، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب. والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام. وقال الزمخشري، وابن عطية : يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا يكون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها. وقرأ الزهري وأبو جعفر : دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في الوقف. وقرأ زيد بن علي : دف بنقل الحركة، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء. وقال صاحب اللوامح : الزهري دف بضم الفاء من غير همز، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة. ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. وقال مجاهد : ومنافع الركوب، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عليها، وغير ذلك. وأفرد منفعة الأكل بالذكر، كما أفرد منفعة الدفء، لأنهما من أعظم المنافع.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : تقدم الظرف في قوله : ومنها تأكلون مؤذن، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها (قلت) : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في