البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٦٠
البيوت، أنه لا يريد بقوله بيوتا الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي. وظاهر من في قوله : من كل الثمرات أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد اللّه منها في أجوافها عسلا. قال ابن عطية : إنما تأكل النوّار من الأشجار.
وقال أبو عبد اللّه الرازي ما ملخصه : يحدث اللّه تعالى في الهواء ظلا كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل الترنجبين وهو محسوس، وقليلا لطيف الأجزاء صغيرها، وهو الذي ألهم اللّه تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئا من تلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض انتهى. وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي : فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران. وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد، ثم عادت إلى مكانها الأول.
وقيل : سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي : في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به. وقيل : المراد بقوله ثم كلي، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها. وقال مجاهد : ذللا غير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللا حال من سبيل ربك كقوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا «١» وقال قتادة : أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد : يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللا حال من النحل كقوله : وَذَلَّلْناها لَهُمْ «٢» ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله : يخرج من بطونها شراب، وهو العسل. وسماه شرابا لأنه مما يشرب، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن.
(٢) سورة يس : ٣٦/ ٧٢.