البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٧٥
جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء : شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى. إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجىء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا : أشساع، فكان ينبغي له أن يقول : غلب شسوع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز : ألم تروا بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية : واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع، والنظر، والعقل، والأوّلان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضا ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو اللّه تعالى، كما قال تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ «١» فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات : مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخرا. وقال أبو عبد اللّه الرازي : هذا دليل على كمال قدرة اللّه وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحا يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولو لا ذلك لما كان الطيران ممكنا انتهى.
وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة اللّه تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو اللّه تعالى. وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة للّه، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول : إنه لو لا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لو لا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيرا في قوله : ما يمسكهن في قبضهن