البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٩٩
ولكن متى يسترفد القوم أرفد أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد. وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي : منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري : أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلا من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من أولئك، فإذا كان بدلا من الذين لا يؤمنون فيكون قوله : وأولئك هم الكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلا من الكاذبون فالتقدير : وأولئك هم من كفر باللّه من بعد إيمانه، وإذا كان بدلا من أولئك فالتقدير : ومن كفر باللّه من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر باللّه من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر باللّه من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر باللّه من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضا بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه ياسر وسمية، وسالم، وحبر، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلي سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام، وعذب بلال وهو يقول :(أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضمير في فعليهم على معنى من، وأفرد في شرح