البحر المحيط، ج ٦، ص : ٦٠
أهله من عز إلى ذل، ومن ذل إلى عز، وبفناء الدنيا، فيعتبر بذلك. وأن ذلك القصص بوحي من اللّه، إذ أعلم بذلك على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ. الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم، وقد أجاب اللّه بقوله : فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ «١» الآية. الثالث : ظهور القرآن شيئا فشيئا، فساء ظنهم وقالوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «٢» وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه.
الرابع : القرآن مملوء من الحشر، وكانوا ألفوا المحسوسات، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، فبين اللّه صحة المعاد بالدلائل الكثيرة. الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه. وأجاب تعالى بقوله : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ «٣» الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة، فلما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله :
بما لم يحيطوا بعلمه، إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصا.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولما يأتهم تأويله؟
(قلت) : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمردا وعنادا فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغيا وحسدا انتهى. ويحتاج كلامه هذا إلى نظر. وقال أيضا : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله، ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب. فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى. وبقيت جملة الإحاطة بلم، وجملة إتيان التأويل بلما، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق. والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من
(٢) سورة الفرقان : ٢٥/ ٣٢.
(٣) سورة الإسراء : ١٧/ ٧.