البحر المحيط، ج ٦، ص : ٦٣
قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم، وإن استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل، فحري بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفردا مذكرا على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب. والمعنى :
أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ من كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذه مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وقوله : أفأنت؟ تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإنّ الهداية إنما هي للّه. قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعي المعنى أولا فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمقصود من الآيتين :
إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى اللّه على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء. وقال الشاعر :
وإذا خفيت على المعني فعاذر أن لا تراءى مقلة عمياء
ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئا، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه، ولكن هم ظالموا أنفسهم بالكفر والتكذيب. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي : لا يظلمهم شيئا من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل. وتقدم خلاف القراء في، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع.