البحر المحيط، ج ٧، ص : ٥٥٤
وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء بِقَدَرٍ بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا مقره في الأرض. وعن ابن عباس : أنزل اللّه من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه. قال الزمخشري : عَلى ذَهابٍ بِهِ من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى. وذَهابٍ مصدر ذهب، والباء في بِهِ للتعدية مرادفة للهمزة كقوله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «١» أي لأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «٢» وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلّا وهو من السماء. قال ابن عطية :
ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلّا فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض، ولا محالة أن اللّه قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى. وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله لَكُمْ فِيها إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا، ويحتمل أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه. كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري : وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز
(٢) سورة الملك : ٦٧/ ٣٠.