البحر المحيط، ج ٨، ص : ١٥٠
السلام؟ وأنه كان مقرا باللّه تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله : وَما بَيْنَهُمَا على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين : جنس السماء، وجنس الأرض كما ثنى المظهر في قوله :
بين رماحي مالك ونهشل اعتبارا للجنسين : وقال أبو عبد اللّه الرازي يحتمل أن يقال : كان عالما باللّه ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا باللّه، وهو قوله : لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال :
كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلها.
انتهى. ومعنى : إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ : هم أشراف قومه. قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. أَلا تَسْتَمِعُونَ : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكا بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى اللّه دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي اللّه عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها :
فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم، وجاء في قوله : الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلها لهم.