البحر المحيط، ج ٨، ص : ١٨٧
أمره عليه السلام إياهم بتقوى اللّه، أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم، تنبيها على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم. وعطف عليهم وَالْجِبِلَّةَ إيذانا بذلك، فكأنه قيل : يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم، فاتقوا اللّه الذي تصيرون إليه. وقرأ الجمهور : والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين، والأعمش، والحسن :
بخلاف عنه، بضمها والشد للام. وقرأ السلمي : والجبلة، بكسر الجيم وسكون الباء، وفي نسخة عنه : فتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا، أي خلقوا. قيل : وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة. وعن ابن عباس : الجبلة : عشرة آلاف. وَما أَنْتَ : جاء هنا بالواو، وفي قصة هود : ما أَنْتَ، بغير واو. فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان، كلاهما مخالف للرسالة عندهم، التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا. انتهى.
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ : إن هي المخففة من الثقيلة، واللام في لمن هي الفارقة، خلافا للكوفيين، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله : وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «١» في البقرة. ثم طلبوا منه إسقاط كسف، من السماء عليهم، وليس له ذلك، فالمعنى : إن كنت صادقا، فادع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفا، أي قطعة، أو قطعا على حسب التسكين والتحريك. وقال الزمخشري : وكلاهما جمع كسفة، نحو : قطع وشذر. وقيل : الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة وكسفة : قطعة، والسماء : السحاب أو المظلة. ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب. ولما طلبوا منه ما طلبوا، أحال علم ذلك إلى اللّه تعالى، وأنه هو العالم بأعمالكم، وبما تستوجبون عليها من العقاب، فهو يعاقبكم بما شاء.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وهو نحو مما اقترحوا. ولم يذكر اللّه كيفية عذاب يوم الظلة، حتى أن ابن عباس قال : من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب، وذكر في حديثها تطويلات.
فروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، فابتلوا بحرّ عظيم يأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم.
وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص، تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها، وهي الدعاء إلى

(١) سورة البقرة : ٢/ ١٤٣.


الصفحة التالية
Icon