البحر المحيط، ج ٨، ص : ١٩٤
ما صنع؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوبا بأرأيت على إعمال الأول، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله : ما أَغْنى عَنْهُمْ، وما استفهامية، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل، أي الموعود به، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية، والاستفهام قد يأتي مضمنا معنى النفي كقوله : هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «١»؟
بعد قوله : أَرَأَيْتَكُمْ «٢» في سورة الأنعام، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاما ونافية. وقرىء : يمتعون، بإسكان الميم وتخفيف التاء.
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب اللّه، إن هي عصت ولم تؤمن، كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «٣». وجمع منذرون، لأن مِنْ قَرْيَةٍ عام في القرى الظالمة، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة.
والجملة من قوله : لَها مُنْذِرُونَ، في موضع الحال مِنْ قَرْيَةٍ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائنا لها منذرون، فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقول : ما مررت بأحد إلا قائما، فصيح.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله : وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟ «٤» قلت : الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله : سَبْعَةٌ وَثامِنُهُم ْ كَلْبُهُمْ
«٥». انتهى. ولو قدرنا لها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا.
ومذهب الجمهور، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا، خرجوه على البدل، أي : إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لورد المفرد بعد إلا صفة
(٢) سورة الأنعام : ٦/ ٤٧.
(٣) سورة الإسراء : ١٧/ ١٥. [.....]
(٤) سورة الحجر : ١٥/ ٤.
(٥) سورة الأعراف : ٧/ ٢٢.