البحر المحيط، ج ٨، ص : ٢٧٣
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ : جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة، وتشبيه مرورها بمر السحاب. قيل : في كونها تمر مرا حثيثا، كما مر السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش :
نار عن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها، قيل : لهول ذلك اليوم، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة. وقال أبو عبد اللّه الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت، ظن الناظر إليها أنها واقفة، وهي تمر مرا حثيثا. انتهى. وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات : ارتجاجها، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، ثم نسفها، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض غير بارزة، وبالنسف برزت، ونسفها بإرسال الرياح عليها، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار، ثم كونها سرابا، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئا كالسراب. وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب صُنْعَ اللَّهِ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه. وقال الزمخشري : صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة كقوله : وَعَدَ اللَّهُ «١» وصِبْغَةَ اللَّهِ «٢»، إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى :
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فكان كيت وكيت، أثاب اللّه المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال : صُنْعَ اللَّهِ، يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال : صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، يعني : أن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد، وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٣٨.