البحر المحيط، ج ٨، ص : ٢٧٦
ويلزم من كبها في النار كب الجميع، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة، كما قال : فَكُبْكِبُوا فِيها «١»، فكأنه قيل : فكبوا في النار. والظاهر من كبت، أنهم يلقون في النار منكوسين، قاله أبو العالية، أعلاهم قبل أسفلهم. ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار، قاله الضحاك. هَلْ تُجْزَوْنَ : خطاب لهم على إضمار القول، أي يقال لهم وقت الكب : هل تجزون.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقول : إِنَّما أُمِرْتُ، والآمر هو اللّه تعالى على لسان جبريل، أو دليل العقل على وحدانية اللّه تعالى. أَنْ أَعْبُدَ : أي أفرده بالعبادة، ولا أتخذ معه شريكا، كما فعلت قريش، وهذه إشارة تعظيم كقوله : وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ «٢»، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه. والبلدة : مكة، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا، ولا تعارض بين قوله : الَّذِي حَرَّمَها، وقوله عليه السلام :«إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»
لأن إسناد ذلك إلى اللّه من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. وفي قوله : حَرَّمَها، تنبيه بنعمته على قريش، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب، وأهلك من أرادها بسوء. وقرأ الجمهور : الذي : صفة للرب. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس : التي حرمها : صفة للبلدة، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : أي من المستسلمين المنقادين لأمر اللّه، فاعبده كما أمرني، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «٣»، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ، إما من التلاوة، أي : وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من المتلو، أي : وأن أتبع القرآن، كقوله : وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ «٤». وقرأ الجمهور : وأن أتلو. وقرأ عبد اللّه : وأن اتل، بغير واو، أمرا من تلا، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار : وأمرت أن أتل، أي اتل. وقرأ أبي : واتل هذا القرآن، جعله أمرا دون أن. فَمَنِ اهْتَدى، به ووحد اللّه ونبيه وآمن بما جاء به، فثمرة هدايته مختصة به. وَمَنْ ضَلَّ، فوبال إضلاله مختص به،
(٢) سورة الأنعام : ٦/ ٩٣.
(٣) سورة الحج : ٢٢/ ٧٨.
(٤) سورة يونس : ١٠/ ١٠٩. [.....]