البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٠٦
ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحرا، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق، قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، حيث أهله للرسالة، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى، ويعني بذلك نفسه، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح، وهي الظلم. وضع الشيء غير موضعه، حيث دعوا إلى الإيمان باللّه، وأتوا بالمعجزات، فادعوا الإلهية، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار، وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة، فقد كثر استعمالها في المحمودة، فإن لم تقيد، حملت عليها. ألا ترى إلى قوله : أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «١»؟ وقال :
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ «٢» وقرأ ابن كثير : قال موسى، بغير واو وباقي السبعة :
بالواو. ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا : كيت وكيت، وقال موسى : كيت وكيت فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقينا أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير، أنه موضع قراءة لما قالوا : كيت وكيت، قال موسى : كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ، ويريد بذلك نفي وجوده، أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم، ولكنه مظنون، فيكون النفي على ظاهره، ويدل على ذلك قوله : وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قوله حالة غرقه : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ «٣»؟
واستمر فرعون في مخرقته، ونادى وزيره هامان، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل : وهو أول من عمل الآجر، ولم يقل : أطبخ الآجر، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً : أي ابن لي، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم، يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافة سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل : بناه، وذكر من وصفه بما
(٢) سورة الرعد : ١٣/ ٤٢.
(٣) سورة يونس : ١٠/ ٩٠. [.....]