البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٤٩
ولا ثم يُنْشِئُ داخلا تحت كيفية النظر في البدء، بل هما جملتان مستأنفتان، إخبارا من اللّه تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه، صار واجبا مقطوعا بعلمه، ولا شك فيه. وقال قتادة : أَوَلَمْ يَرَوْا، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد اللّه الأجسام بعد الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر، حتى إلى التراب؟
وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو : النشاءة هنا، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة وباقي السبعة : النشأة، على وزن فعلة، وهما كالرآفة والرأفة، وهما لغتان، والقصر أشهر، وانتصابه على المصدر، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء، وإما على إضمار فعله، أي فتنشئون النشأة.
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ، ثم أضمر في قوله ثُمَّ يُعِيدُهُ، وهنا عكس أضمر في بدا، ثم أبرزه في قوله : ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه. ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها، إذ كان نزاع الكفار فيها، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. والآخرة صفة للنشأة، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم، ونشأة إعادة. ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها. ثم أخبر بأنه يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، أي تعذيبه، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته، وبدأ بالعذاب، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ : أي تردون. وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ : أي فائتين ما أراد اللّه لكم. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، إن حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصا بعد تعميم، أو على المظلة، فيحتاج إلى تقرير، أي لو صرتم فيها، ونظيره قول الأعشى :
ولو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه وتعلم أني فيك لست بمجرم
وقوله تعالى : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١»، على تقدير

(١) سورة الرحمن : ٥٥/ ٣٣.


الصفحة التالية