البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٧٤
وجاء الخبر، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة، وأن القرآن من عند اللّه، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا اللّه.
وقرأ علي، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، والحسن : غُلِبَتِ الرُّومُ : مبنيا للفاعل، سَيَغْلِبُونَ : مبنيا للمفعول
والجمهور : مبنيا للمفعول، سيغلبون : مبنيا للفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشام، يعنى : بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر، فعز ذلك على كفار قريش، وسر المؤمنون، وبشر اللّه عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا، وبأنهم سيغلبون، فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله : وأجمعوا، ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور : غلبهم، بفتح الغين واللام :
وعلي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة : بإسكانها والقياس عن ابن عمر : وغلابهم، على وزن كتاب.
والروم : طائفة من النصارى، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن كانت الواقعة في أذرعات، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت بالجزيرة، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالأردن، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي : فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت، بضم الغين، يكون مضافا للمفعول وبالفتح، يكون مضافا للفاعل، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.
أخذ المسلمون في جهاد الروم، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : الم، غُلِبَتِ الرُّومُ إلى قوله : فِي بِضْعِ سِنِينَ، افتتاح المسلمين بيت المقدس، معينا زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح،


الصفحة التالية
Icon