البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٨٧
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما. وَهُوَ الْعَزِيزُ : أي القاهر لكل شيء، الْحَكِيمُ الذي أفعاله على مقتضى حكمته. وعن مجاهد : المثل الأعلى قوله : لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وله الوصف بالوحدانية، ويؤيده قوله : ضَرَبَ لَكُمْ.
وقال ابن عباس وغيره : بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها باللّه، بضربه هذا المثل، ومعناه : أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير. وقال السدي : كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل : لما نزلت، قال أهل مكة :
لا يكون ذلك أبدا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«فلم يجوز لربكم»؟
ومن في : مِنْ أَنْفُسِكُمْ لابتداء الغاية، كأنه قال : أخذ مثلا، وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في : مِمَّا مَلَكَتْ للتبعيض، ومن في : مِنْ شُرَكاءَ زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول : ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكا للّه، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد اللّه الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفه. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه : قوله : مِنْ أَنْفُسِكُمْ : أي من نسلكم، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله : مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ : أي عبيدكم، والملك ما قبل النقل بالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك اللّه مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله : فِي ما رَزَقْناكُمْ : يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو اللّه ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى


الصفحة التالية
Icon