البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٩٩
البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء، وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماء منه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها. والبسط : نشرها في الآفاق، والكسف : القطع. وتقدم الكلام على قوله : فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، وذكر الخلاف في كِسَفاً وحاله من جهة القراء. والضمير في : مِنْ خِلالِهِ، الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل : ويحتمل أن يعود على كِسَفاً في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء : سمت السماء، كقوله :
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ «١». فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ : أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار، ولم يتأخر سرورهم. وقال الأخفش : مِنْ قَبْلِهِ تأكيد لقوله : مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ.
وقال ابن عطية : أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله : مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يحتمل الفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله : مِنْ قَبْلِ بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مقيد. وقال الزمخشري : وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك.
انتهى. وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : مِنْ قَبْلِهِ غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط. وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل، من قبل المطر. انتهى. وصار من قبل إنزال المطر : من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح، فضلا عن القرآن. وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله : فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم، لأن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ متعلق بقوله : لَمُبْلِسِينَ. ولا يمكن من قبل الزرع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل. وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيه البدل، إذ إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال