البحر المحيط، ج ٨، ص : ٤٠٣
كيف جعلهم غضابا. ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى : فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ «١». فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله : وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ «٢»؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين، فهذا معناه وأما كونهم غير معتبين، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني، غير راضين منه. فإن يستعتبوا اللّه : أي يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية :
هذا إخبار عن هول يوم القيامة، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار، ولا يعطون عتبى، وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى : يعتبون، كما تقول : يملك ويستملك.
والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل :
لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون. وقيل : لا يطلب لهم العتبى. وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار.
وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم، وما لا يقع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. وأَنْتُمْ : خطاب للرسول والمؤمنين، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد اللّه الرازي : وفي توحيد الخطاب بقوله : وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ، والجمع في قوله : إِنْ أَنْتُمْ لطيفة، وهي : أن اللّه عز وجل قال : وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بكل آية جاءت بها الرسل، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ : أي مثل هذا الطبع يطبع اللّه، أي يختم على قلوب الجهلة الذين قد ختم اللّه عليهم الكفر في الأزل، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى، إذ هو فاعل ذلك ومقدره. وقال الزمخشري : ومعنى طبع اللّه : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين
(٢) سورة فصلت : ٤١/ ٢٤.