البحر المحيط، ج ٨، ص : ٤١٧
رفعه وجهارته، والغض : رد طموح الشيء، كالصوت والنظر والزمام. وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به في الجاهلية، ومنه قول الشاعر :
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعيم
ويخطو على الأين خطو الظليم ويعلو الرجال بخلق عميم
وغض الصوت أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه. وأنكر : أفعل، إن بنى من فعل المفعول، كقولهم : أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ. والأصوات : أصوات الحيوان كلها. وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة. شبه الرافعون أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهاق، ولم يؤت بأداة التشبيه، بل أخرج مخرج الاستعارة، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت. ولما كان صوت الحمير متماثلا في نفسه، لا يكاد يختلف في الفظاعة، أفرد لأنه في الأصل مصدر.
وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جدا، جمعت في قوله : إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ، فالمعنى : أنكر أصوات الحمير، بالجمع بغير لام. وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرد عليهم بأنه لو كان خيرا، فضل به الحمير. والظاهر أن قوله : إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه، تنفير له عن رفع الصوت، ومماثلة الحمير في ذلك. قيل : هو من كلام اللّه تعالى، وفرغت وصية لقمان في قوله : وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ردا للّه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن.
وقيل : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ : إشارة إلى الأفعال، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ : إشارة إلى الأقوال، فنبه على التوسط في الأفعال، وعلى الإقلال من فضول الكلام.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ


الصفحة التالية
Icon