البحر المحيط، ج ٨، ص : ٤٢٩
غيره وبينه، لم نقل فيه : إن فيه تقديما وتأخيرا، بل لو تأخر لم يكن اعتراضا. وأما كونه متعلقا بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقا هو المقصود، لأن المعنى :
لا مدخل للريب فيه، إنه تنزيل اللّه، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم : افْتَراهُ، كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند اللّه، فقال ذلك حسدا، أو حكما من اللّه عليه بالضلال. وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل : لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلا من رب العالمين. ويشهد لوجاهته قوله : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين. وكذلك قوله : بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وما فيه من تقدير أنه من اللّه، وهذا أسلوب صحيح محكم، أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه. ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل، والهمزة إنكارا لقولهم وتعجبا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك.
انتهى، وهو كلام فيه تكثير. وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون، فهو خروج من حديث إلى حديث ومن ربك في موضع الحال، أي كائنا من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير :
من زائدة، ونذير فاعل أتاهم.
أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولا بخصوصيتهم قبل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم، وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله : وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «١»، أي شريعته ودينه والنذير ليس مخصوصا بمن باشر، بل يكون نذيرا لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال ابن عباس، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيسى ومحمد، عليهما السلام.
وقال الزمخشري : ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، كقوله : ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «٢»، وذلك أن قريشا لم يبعث اللّه إليهم رسولا قبل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير، لم تقم عليهم حجة. قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا،

(١) سورة فاطر : ٣٥/ ٢٤.
(٢) سورة يس : ٣٦/ ٦.


الصفحة التالية
Icon